فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أخلص العمل لربه، عز وجل، فعمل إيمانًا واحتسابًا {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي: يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متبعًا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمن فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمن فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا. ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16]؛ ولهذا قال تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161] و{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] والحنيف: هو المائل عن الشرك قصدا، أي تاركًا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكليته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد.
وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} وهذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمام يقتدى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] قال كثيرون من السلف: أي قام بجميع ما أمر به ووفَّىكل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير. وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} الآية [البقرة: 124]. وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120- 122].
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذًا لما قدم اليمن صلى الصبح بهم: فقرأ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} فقال رجل من القوم: لقد قَرّت عينُ أم إبراهيم.
وقد ذكر ابن جرير في تفسيره، عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْب، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل- وقال بعضهم: من أهل مصر- ليمتار طعامًا لأهله من قِبَله، فلم يصب عنده حاجته. فلما قَرُب من أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غَرَائري من هذا الرمل، لئلا أغُمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون. ففعل ذلك، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال: نعم، هو من خليلي الله. فسماه الله بذلك خليلا.
وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، وإنما سُمّي خليل الله لشدة محبة ربه، عز وجل، له، لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصحيحين، من حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: «أما بعد، أيها الناس، فلو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله».
وجاء من طريق جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي، وعبد الله بن عَمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا».
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أُسَيْد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجَوْزجاني بمكة، حدثنا عُبَيد الله الحَنَفي، حدثنا زَمْعة بن صالح، عن سلمة بن وَهْرَام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجبًا إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله! وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما! وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر: آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلم وقال: «قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشَفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر».
وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها.
وقال قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الخُلَّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه. وكذا روى عن أنس بن مالك، وغير واحد من الصحابة والتابعين، والأئمة من السلف والخلف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا محمد- يعني ابن سعيد بن سابق- حدثنا عمرو- يعني ابن أبي قيس- عن عاصم، عن أبي راشد، عن عُبَيْد بن عُمَير قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائمًا، فقال: يا عبد الله، ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلا. قال: من هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينّه ثم لا أبرح له جارًا حتى يفرق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فيم اتخذني الله خليلا؟ قال: إنك تعطي الناس ولا تسألهم.
وحدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد السلمي، حدثنا الوليد، عن إسحاق بن يسار قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوَجَل، حتى إن كان خفقانُ قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يسمع لصدره أَزِيزٌ كأزيز المرْجل من البكاء. اهـ.

.قال في الميزان:

قوله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن} إلى آخر الآية كأنه دفع لدخل مقدر، تقديره: أنه إذا لم يكن لإسلام المسلم أو لإيمان أهل الكتاب تأثير في جلب الخير إليه وحفظ منافعه.
وبالجملة إذا كان الإيمان بالله وآياته لا يعدل شيئا ويستوى وجوده وعدمه فما هو كرامة الإسلام؟ وما هي مزية الإيمان؟.
فأجيب بأن كرامة الدين أمر لا يشوبه ريب، ولا يداخله شك ولا يخفى حسنه على ذى لب وهو قوله: {ومن أحسن دينا}، حيث قرر بالاستفهام على طريق إرسال المسلم فإن الإنسان لا مناص له عن الدين، وأحسن الدين إسلام الوجه لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، والخضوع له خضوع العبودية، والعمل بما يقتضيه ملة إبراهيم حنيفا وهو الملة الفطرية، وقد اتخذ الله سبحانه إبراهيم الذي هو أول من أسلم وجهه لله محسنا، واتبع الملة الحنيفية خليلا.
لكن لا ينبغى أن يتوهم أن الخلة الإلهية كالخلة الدائرة بين الناس الحاكمة بينهم على كل حق وباطل التي يفتح لهم باب المجازفة والتحكم فالله سبحانه مالك غير مملوك ومحيط غير محاط بخلاف الموالى والرؤساء والملوك من الناس فإنهم لا يملكون من عبيدهم ورعاياهم شيئا إلا ويملكونهم من أنفسهم شيئا بإزائه، ويقهرون البعض بالبعض، ويحكمون على طائفة بالإعضاد من طائفة أخرى ولذلك لا يثبتون في مقامهم إذا خالفت إرادتهم إرادة الكل بل سقطوا عن مقامهم وبان ضعفهم.
ومن هنا يظهر الوجه في تعقيب قوله: {ومن أحسن قولا} إلخ بقوله: {ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}
لا أحدَ أحسنُ دينًا ممن أسلم وجهه لله؛ يعني أفرد قصده إلى الله، وأخلص عقده لله عما سوى الله، ثم استسلم في عموم أحواله لله بالله، ولم يدَّخِرْ شيئًا عن الله؛ لا من ماله ولا من جَسَدِه، ولا من روحه ولا من جَلَدِه، ولا من أهله ولا من وَلَدِه، وكذلك كان حال إبراهيم عليه السلام.
وقوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: الإحسان- بشهادة الشرع- أن تعبد الله كأنك تراه، ولابد للعبد من بقية من عين الفرق حتى يصحّ قيامه بحقوقه سبحانه لأنه إذا حصل مستوفيّ بالحقيقة لم يصح إسلامه ولا إحسانه، وهذا اتِّباع إبراهيم عليه السلام الحنيف الذي لم يبق منه شيء على وصف الدوام.
وقوله: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}: جرَّد الحديث عن كل سعي وكدٍ وطلبٍ وجهدٍ حيث قال: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فعُلِمَ أَنَّ الخلَّة لُبسةٌ يُلبِسها الحقُّ لا صفةٌ يكتسبها العبد.
ويقال الخليل المحتاج بالكلية إلى الحق في كل نَفَسٍ ليس له شيء منه بل هو بالله لله في جميع أنفاسه وأحواله، اشتقاقًا من الخُلَّة التي هي الخَصَاصة وهي الحاجة.
ويقال إنه من الخلة التي هي المحبة، والخلة أن تباشِر المحبةُ جميع أجزائه، وتتخلل سِرَّه حتى لا يكون فيه مساغ للغير.
فلمَّا صفَّاه الله سبحانه عليه السلام عنه، وأخلاه منه نَصَبَه للقيام بحقه بعد امتحائه عن كل شيء ليس لله سبحانه.
ثم قال: {وَأَذِّن في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] لا يلبي الحاج إلا لله، وهذه إشارة إلى جمع الجمع. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في الآية:

قال رحمه الله:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}
فَنَفَى أَنْ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الدِّينِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ دِينَا أَحْسَنَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَهُوَ إنْكَارُ نَهْيٍ وَذَمٍّ لِمَنْ جَعَلَ دِينًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. قَالَ قتادة وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمَا: إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَحْنُ أَوْلَى بِاَللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْكُمْ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الْآيَةَ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ حَتَّى نَزَلَتْ {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ فِيهِمْ أَيْضًا {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٌ قَالَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا نُبْعَثُ أَوْ لَا نُحَاسَبُ وَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ مِنْ الْأُمِّيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ فِي النَّقْلِ وَأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَالْخِطَابُ فِيهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كَسَائِرِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَاءِ وَبِهَا يُجْزَى الْمُؤْمِنُ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَا مُجَرَّدَ الْكُفَّارِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ تَنَازُعًا فِي تَفْضِيلِ الْأَدْيَانِ لَا مُجَرَّدَ إنْكَارِ عُقُوبَةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَأَيْضًا: فَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابٌ لَهُمْ فَكَانَ الْمُخَاطَبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمُخَاطَبُ فِي بَقِيَّةِ الْآيَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ نَصٌّ فِي نَفْيِ دِينٍ أَحْسَنَ مِنْ دِينِ هَذَا الْمُسْلِمِ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ أَنَّهُ لَيْسَ دِينٌ مِثْلُهُ؟ فَإِنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْهُ. أَوْ دُونَهُ أَوْ مِثْلَهُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِنْهُ فَمِنْ أَيْنَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا دِينَ مِثْلَهُ؟ وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قِيلَ: لَوْ قُلْنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ: إنَّ الْآيَةَ لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْأَحْسَنِ لَمْ يَضُرَّ هَذَا؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ لَهُ مَقَامَاتٌ قَدْ يَكُونُ الْخِطَابُ تَارَةً بِإِثْبَاتِ صَلَاحِ الدِّينِ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَدَّعِي أَوْ يَظُنُّ فَسَادَهُ ثُمَّ فِي مَقَامٍ بِأَنْ يَقَعَ النِّزَاعُ فِي التَّفَاضُلِ فَيُبَيِّنُ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ. ثُمَّ فِي مَقَامٍ ثَالِثٍ يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ. وَهَكَذَا إذَا تَكَلَّمْنَا فِي أَمْرِ الرَّسُولِ فَفِي مَقَامٍ نُبَيِّنُ صِدْقَهُ وَصِحَّةَ رِسَالَتِهِ. وَفِي مَقَامٍ بِأَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَفِي مَقَامٍ ثَالِثٍ نُبَيِّنُ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ.